بنغلاديش- من الاحتجاجات إلى مستقبل جديد بقيادة الشباب والتغيير

في خطاب متلفز، أدلت به الشيخة حسينة، رئيسة وزراء بنغلاديش المستقيلة، في خضم الاحتجاجات المتصاعدة ضد حكمها، صرحت قائلة: "إذا لم ينل أحفاد المناضلين من أجل الحرية نصيبهم من المزايا والامتيازات، فمن إذن سيحظى بها؟ أحفاد الرزكار؟". تجدر الإشارة إلى أن قوة الرزكار كانت ميليشيا شبه عسكرية، أنشأتها باكستان خلال حرب الاستقلال التي خاضها البنغاليون، وقد اشتهرت هذه القوة بممارساتها الوحشية والعنيفة، فضلاً عن أعمال التعذيب التي ارتكبتها ضد البنغاليين خلال عامي 1970 و1971.
يبدو أن الشيخة حسينة، في غمرة انفعالاتها، لم تستوعب تمامًا حجم التداعيات الخطيرة التي قد تنجم عن هذا التصريح المتهور الذي أطلقته في وجه المحتجين، حيث عمدت إلى تشبيههم بأعداء الوطن، الأمر الذي أوقد شرارة الغضب العارم في جميع أنحاء البلاد. لقد عجزت الشيخة حسينة، شأنها شأن الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي الذي تفوه بعبارته الشهيرة "الآن فهمتكم" قبل فراره، عن استيعاب التحولات الجذرية التي طرأت على أرض الواقع، وهي معضلة تواجهها العديد من الدول التي تحتكر فيها فئة معينة مقاليد السلطة.
فالذين ناضلوا ببسالة من أجل استقلال البلاد، يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق المطلق في التمتع بخيراتها وثرواتها، ويُنظر إلى البلاد وكأنها غنيمة حرب يجب السيطرة عليها والاستئثار بها. وعلى هذا الأساس، يتمسك الظهير السياسي للشيخة حسينة، أي "رابطة عوامي"، الذي خاض غمار حرب الاستقلال عن باكستان قبل 47 عامًا، بالحصول على حصة ثابتة من الوظائف الحكومية، باعتبارهم هم من حرروا البلاد من نير الاستعمار.
في المقابل، يشدد طلاب الجامعات بإصرار على ضرورة إتاحة هذه الوظائف للكفاءات والجدارات المتميزة، ويرون أن نظام الحصص هذا قد حرم عددًا كبيرًا من المتفوقين والنابغين من حقهم الأصيل في الحصول على وظيفة عامة. ومن هنا، انطلقت شرارة الاحتجاجات الطلابية من جامعة داكا، اعتراضًا على إعادة العمل بنظام الحصص هذا، بعد أن كان قد أُلغي في عام 2018. وعلى الرغم من أن المحكمة العليا قد أقرت تخصيص 93% من الوظائف على أساس الجدارة، إلا أن عنف الشرطة المفرط، وسقوط قتلى بين صفوف المتظاهرين، قد فاقم من حدة الأحداث، وأدى إلى انتشارها على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد.
العالم يتغيّر
تشهد بنغلاديش حاليًا تحولات عميقة وجذرية، فقد حققت تقدمًا اقتصاديًا ملحوظًا، وشهدت تراجعًا كبيرًا في معدلات الفقر، التي انخفضت إلى أقل من 20% من إجمالي عدد السكان، بعد أن كان معظم السكان يعانون من الفقر المدقع. يُضاف إلى ذلك، الارتفاع الكبير في نسب ومستوى التعليم، ما أدى إلى نشوء طبقة متعلمة وواعية بحقوقها، مع الانفتاح المتزايد على العالم عبر شبكة الإنترنت. ونتيجة لذلك، امتلكت الأجيال الجديدة وعيًا غير مسبوق تجاه حقوقها وواجبات السلطة.
ومما زاد الطين بلة، أن الشيخة حسينة قد مارست العنف المفرط ضد معارضيها، واستغلت ولاء جهاز الشرطة، فلفقت للدكتور محمد يونس تهمًا باطلة بالفساد وحاكمته، وهو رمز بنغلاديش الوطني الذي حصد جائزة نوبل للسلام، بعد أن نجح بنك الفقراء الذي أسسه في انتشال الآلاف من براثن الفقر في البلاد. لقد أصبح الدكتور يونس الآن لاعبًا أساسيًا من اللاعبين الذين سيصوغون مستقبل بنغلاديش.
ومما لا شك فيه، أن قطع شبكة الإنترنت كان من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تصعيد وتيرة الغضب في البلاد أثناء الاحتجاجات، وأكد مدى قلق السلطة منها، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى الانضمام إلى صفوف المحتجين.
التمسك بالسلطة والعنف
إن تمسك الشيخة حسينة المتشبثة بالسلطة، والتي بلغت من العمر 76 عامًا، وتولت منصب رئيس الوزراء 5 مرات، وسيطرتها المطلقة على جهاز الشرطة الذي يدين قادته بالولاء المطلق لها، قد جعلها تتوحد مع كرسي الحكم، وتفقد القدرة على رؤية المتغيرات المتسارعة التي تحدث على أرض الواقع. وبحسب تقرير نشرته صحيفة "بروثوم ألو"، فقد استدعت الشيخة حسينة ضباط المؤسسة الأمنية إلى مقر إقامتها، وطلبت منهم فرض حظر التجول بشكل فوري.
إلا أن تزايد أعداد المتظاهرين بشكل مطرد، مع ارتفاع عدد القتلى الذي تجاوز 300 قتيل، ومشاهد المتظاهرين وهم يتسلقون مركبات الشرطة، كل هذا دفع قائد الشرطة إلى إبلاغها بأن قوات الشرطة لن تتمكن من احتواء الاضطرابات المتفاقمة. وبات أفراد الشرطة في بنغلاديش يشعرون بقلق بالغ إزاء العواقب الوخيمة التي قد تترتب على عنفهم المفرط إذا ما تغير نظام الحكم، بل إنهم هددوا بالإضراب العام بعد فرار الشيخة حسينة على متن طائرة هليكوبتر عسكرية إلى الهند.
اللحظات الأخيرة
في اللحظات الأخيرة، لجأت أطراف مقربة من الشيخة حسينة إلى محاولة إقناعها بالاستقالة، على أمل تهدئة الأوضاع المتوترة، ومن بين هؤلاء كانت أختها ريحانة المقربة منها، إلا أنها قوبلت بالرفض القاطع. عندها تدخل ابنها سجيب وازد جوي، الذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركية، وبحكم مراقبته للأحداث من الخارج، واطلاعه على التقارير الإعلامية الأجنبية، تمكن من إقناعها بالاستقالة. وعلى الفور، توجهت الشيخة حسينة إلى بانجابهابان، المقر الرسمي للرئيس البنغلاديشي محمد شهاب الدين، وقدمت استقالتها قبل لحظات معدودة من اقتحام المتظاهرين مقر مجلس الوزراء.
الماضي والمستقبل
منذ استقلالها في عام 1971، يعتمد النظام الحاكم في بنغلاديش على النظام البرلماني، إلا أن الجيش قد سيطر على الحكم في البلاد منذ انقلاب عام 1975 من وراء الستار. ويتم انتخاب الرئيس من قبل البرلمان، وبالتالي فإن السلطة الفعلية تتركز في يد رئيس الوزراء.
وفي عام 1991، استعادت البلاد السلطة من الجيش، وبدأت في تحقيق صعود اقتصادي ملحوظ، حتى أصبحت من أكبر مصدري الملابس الجاهزة في العالم، بالإضافة إلى عدد من الموارد المختلفة التي عززت من قدرات البلاد.
لكن الواقع المرير على الأرض، والمتمثل في السيطرة المطلقة على الحكم، والجمود الفكري، وعدم إدراك المتغيرات المتسارعة وتقييم المعطيات بشكل صحيح، قد أدى إلى تبلور حراك سياسي جديد من خلال هذه الاحتجاجات المتواصلة، وهو حراك قد يؤدي إلى تلاشي القوى التقليدية في البلاد، مع بروز قيادات جديدة تحمل تصورات مختلفة، خاصة في ظل استفحال الفساد بين صفوف النخبة التي سيطرت على الحكم في ظل الشيخة حسينة، وهو فساد قد يؤدي في نهاية المطاف إلى فتح ملفات فساد ضخمة، وربما يقود إلى مصادرة أموال وثروات البعض.
لكن على الجانب الآخر، لا يمكن إنكار حقيقة أن القوى القديمة، مثل "رابطة عوامي"، لن تختفي تمامًا من المشهد السياسي، بل ستظل حاضرة بقوة. وسيعتمد حضورها المستقبلي على قدرتها على الصمود، أو تغيير جلدها، وتحديث بنيتها، وهو أمر أستبعد حدوثه، حيث إن التيار الجارف الذي يجتاح حاليًا جميع أقاليم بنغلاديش يفاجئنا يوميًا بقيادات لم تكن ظاهرة أو موجودة على الساحة من قبل.
لذا، من المتوقع أن نشهد في السنوات الخمس القادمة وجهًا آخر لبنغلاديش يختلف تمامًا عما اعتدنا عليه. بالإضافة إلى ذلك، فإن النقاش الدائر حاليًا في أوساط الطبقات الصاعدة من السياسيين والمثقفين، يرى في بنغلاديش نموذجًا قريبًا من النماذج الناجحة سياسيًا واقتصاديًا، مثل ماليزيا وفيتنام وكوريا الجنوبية.
وإضافة إلى ما قد لا يدركه البعض ممن هم خارج المجتمع في بنغلاديش، فإن التقدم المذهل الذي حققته الجارة القوية الهند، والتي أصبحت العام الماضي خامس أكبر اقتصاد في العالم، والتي تتمتع بديمقراطية سياسية راسخة، قد أثار الغيرة والنقاش المحتدم في بنغلاديش. ولا شك أن كل ذلك كان له تأثير كبير على ما حدث، وما سيحدث هناك في المستقبل القريب.